روبرت تايلور ومنتخبنا*
د.نخلة أبو ياغي
عمان- عرفت سلة الأردن منذ نشأتها حكايات جميلة ونجاحات رائعة، لكن قصة المنتخب الوطني الذي سافر إلى المغرب العام 1985 وعاد بصولجان الزعامة العربية، تبقى فصلا خالدا في دفاتر إنجازات أبطالها. هذه قصتهم كما يرويها مدرب الفريق في تلك الحقبة الأميركي روبرت تايلور.
القاهرة.. ليلة صافية ونيل يتثاءب
يبدو اللقاء الودي بكرة السلة أمام الشقيقة مصر وديعا هادئا، لكنه في الحقيقة لم يكن كذلك. الداهية الأسمر روبرت تايلور يستكشف خيارات تكتيكية جديدة، أمام أكبر وأطول وأكثر المنتخبات العربية موهبة وخبرة. تقدم الفراعنة بسرعة 20-5، وطلب المدير الفني وقتا مستقطعا ليجرّب طريقته، نفّذ لاعبو المنتخب الوطني دفاعا ضاغطا بطول الملعب بطريقة 2-2-1 وتقلص الفارق فورا لنقطتين: وقت مستقطع لمصر!
يبتسم تايلور على الدكة ويطلب من الفريق تخفيف الدفاع الضاغط. فازت مصر في النهاية لكن تايلور لم يكن يبحث عن الانتصار هنا “تعلمت كيف يمكننا أن نهزمهم”.
بغداد… غضب تحت الشمس
“لا يوجد لدى أسود الرافدين ما يسمى مباراة ودية”، هكذا يروي تايلور بإعجاب عن استضافة العراق للمنتخب الوطني. “الكتيبة العراقية الخبيرة دمرت دفاع المنطقة المفضل لدي، والعراقيون كانوا ممتازين”.
غضب اللاعبون على مدربهم لكن تايلور كان يجرّب ويتعلّم: “كان لا بد من ارتكاب الأخطاء الآن.. دفاع المنطقة 1-3-1 فشل فشلا ذريعا.. لكنني كنت أحضر لهم سلاحي السري الجديد”.
فاز العراق على النشامى بفارق سبع عشرة نقطة، ولم يعرف ليلتها أي من الفريقين أن هذه المواجهة في قلب بغداد سيكون لها ارتداداتها التاريخية في قادم الأيام، أما تايلور فقد غادر بغداد وهو يعرف أن خسارة مباراتين كبيرتين قد علمتاه كل ما يحتاج أن يتعلم لينتصر على أعتى الفرق.
الرباط.. بداية حلم
يروي تايلور كيف كان بنى خطته رويدا وعينه على رحلة البطولة العربية في المغرب العام 1985: “كان قائد الفريق سمير نصّار مصابا في ركبته وكان علي اتخاذ قرارات مؤلمة كمدرب في غيابه”.
تحسر تايلور كثيرا على خسارة عقله المدبّر في الملعب: “كان قائدا لمنتخب كرة اليد في الوقت ذاته ولا يمكن أن أصف لك تأثيره في الفريق.. نصار لاعب نادر وقائد حقيقي، والكثير مما حققته في الأردن مرتبط به”.
لكن سميرا آخر هو لاعب الأهلي العبقري مرقص، كان قد نضج كقائد ميداني ودماغ للفريق الذي سافر للمغرب دون ضجيج. بمجرد أن وصل النشامى أرض المغرب، رتبت البعثة مباراة استعدادية أخيرة أمام أصحاب الأرض دون جمهور. دخل الفريق الصالة فإذا بها تعجّ بالمشجعين المغاربة المتحمسين، وقال تايلور: “اقترب مني مدرب المغرب الفرنسي ووضع يده على رأسه معتذرا.. قال لي.. ماذا باستطاعتي أن أفعل؟”.
بدأ المنتخب المغربي بقوة وأخذت الصالة تغلي كالمرجل، وسجل نجم فريقهم تسع نقاط متتالية لكن تايلور ظل متماسكا “دخلنا في جو المباراة تدريجيا وعادلنا النتيجة مع نهاية الشوط الأول.. في الشوط الثاني افترسنا الفريق المغربي وكنت في غاية السعادة والفخر”.
لم تبدأ البطولة بعد لكن رجلا واحدا أصبح العدو الأول للجمهور المغربي المضياف هو مدرب المنتخب الوطني، وعن ذلك يقول تايلور: “في قرارة نفسي عرفت أنني أملك فريقا حقيقيا قادرا على القتال حتى آخر رمق. كنا جميعا يدا واحدة ونلعب بقلب رجل واحد”.
بدأت البطولة، ولم تجد كتيبة تايلور صعوبة في تجاوز الإمارات ثم قطر. حصل الفريق على راحة وأخذ ينتظر غريمه في نصف النهائي.. إنه الجار السوري اللدود.
سورية يا حبيبتي
يروي تايلور مشاعره تجاه المنتخب السوري: “كانت سورية أفضل فريق في البطولة بناء على أحجام اللاعبين وخبرتهم وموهبتهم، كانوا باختصار فريقا متكاملا، لكن كعب أخيل لديهم أنهم كانوا يلعبون دائما بالطريقة “السوفييتية” الكلاسيكية نفسها 1-2-2 في الدفاع والهجوم، كانوا أقوياء جدا وتقليديين جدا كالرجال الآليين. راقبتهم لثلاث سنوات ولم يتغيّروا أبدا، هدفي كان أن أجبر هذا الفريق العنيد أن يغيّر خطته”.
كان جناح سورية الطائر جاك بشياني نجما فوق العادة، لكن تايلور لم يكن ليترك الداهية السوري مرتاحا أبدا “راقبنا بشياني وصانع العابهم رجلا لرجل في كل أرجاء الملعب، وتركت رجالي الثلاثة الكبار مراد وهلال بركات وجمال البحيري يحمون السلة. لاحق سمير مرقص وعماد السعيد صانع ألعاب سورية كفهود صيد مدربة، فيما دافع يوسف زغلول ومروان معتوق وينال قناش بقوة رهيبة على جاك بشياني”.
تعطلت الماكينة السورية هجوميا فيما فجّر مراد بركات ورفيقاه العملاقان السلة السورية على الطرف الآخر، لم يعتقد أحد في الصالة قبل بدء المباراة أن سورية يمكن أن تخسر، لكن الكتيبة القوية التي خشيها تايلور أكثر من أي فريق آخر، سقطت أمام النشامى في نصف النهائي 75-66. هناك طرف جديد في نهائي الدورة العربية إسمه الأردن!
نهائي على صفيح ساخن
يروي تايلور عن مباراة البطولة: “دخلنا مباراة النهائي وكل همي أن لا نكون متوترين.. كنت أخبئ للعراقيين سلاحي السري (دفاع المنطقة الضاغط بطريقة 2-2-1)، لم نطبق هذا الأمر أبدا خلال البطولة، كنت متمهلا وأحببت أن أقرأ المباراة في البداية ثم أغيّر التكتيك في الشوط الثاني”.
لكن المنتخب العراقي لم يكن سيسمح بذلك، كانت فرقة أسود الرافدين فريقا مهيبا وبأطوال رهيبة: “لاعبو الجناح العراقيون كانوا بطول لاعبي ارتكاز الأردن!” يقول تايلور، “لم تكن الخسارة أبدا خيارا لدى العراقيين، خصوصا بعد أن هزمونا في بغداد بسبع عشرة نقطة، لكن مشكلتهم أنهم كانوا واثقين جدا من أنفسهم”.
عرف تايلور أن أجنحة الأردن أقصر طولا لكن أسرع حركة، ولذلك وجّه لاعبيه لتسريع إيقاع اللعب “لم يكن ممكنا أن ندعهم يفرضون إيقاعهم البطيء علينا، كان المنتخب العراقي يلعب هجوميا بطريقة 1-4، وكانوا يجيدون اللعب من خارج القوس ومن تحت السلة، وكان صانع ألعابهم الوحيد الذي يجيد تنطيط الكرة بسرعة، العراقيون كانوا مبرمجين لكي نضغط عليهم! أمرت الرجال بتسريع اللعب والإجهاز عليهم بقوتي الهجومية، هدّاف الفريق مراد بركات”.
رغم كل شيء، كان الشوط الأول عراقيا من الباب للمحراب، لعب أبناء الرافدين بهدوء وثقة فيما كان النشامى متوترين، ولوهلة بدت أشباح مباراة بغداد تلوح في الأفق. طلب تايلور وقتا مستقطعا قبل نهاية الشوط الأول بدقيقتين، والعراق يتقدم بفارق سبع نقاط وأخذ يفكر في تنفيذ خطة الدفاع الضاغط.
“لم أرد أن أدخل الشوط الثاني متأخرا بعشر نقاط، لكن العراقيين أثبتوا علو كعبهم وانتهى الشوط بفارق أكبر من ذلك! في أذهانهم كنّا قد انتهينا، كنت أراهم يدخلون غرف الغيار بابتسامات هادئة، احتفلوا في داخلهم بنصر عريض، كم كانوا واثقين من أنفسهم!”.
لكن لسبب ما كان تايلور يؤمن أن المنتخب الوطني سيفوز: “كان إحساسا داخليا غريبا… الجو داخل الصالة كان حارا جدا وعرفت أننا يجب أن نجعلهم يتعبون، كنت أشعر أن بإمكاننا أن نقلب الطاولة”.
قبلة على جبين المجد
كان نجم المنتخب جمال البحيري متعبا ويعاني من ارتفاع في حرارته.. لكن طبيب المنتخب د. سمير سارة قام بما يلزم وطمأن اللاعب: “نعم يمكنك المشاركة”. وبعد شوط أول سيئ شعر جمال أن جزءا من طاقته قد عاد مع مطلع الشوط الثاني.
سجّل الأردن أولا وضغط على العراقيين فخسروا الكرة وسجل المنتخب الوطني مجددا، طلب مدرب العراق وقتا مستقطعا بعد دقيقة واحدة فقط!
ما تلا ذلك كان معركة حقيقية في القدرة على الاحتمال، ركض الفريقان كثيرا وبدأ التعب يظهر على اللاعبين. بقي العراق متقدما لكن شكل المباراة تغيّر، تأخر تايلور في طلب الوقت المستقطع حتى الدقيقة 13 من الشوط الثاني، وجلس لاعبو الفريقين يلهثون والعراق يتقدم بثلاث عشرة نقطة!
كان الجناح الخبير ينال قناش مرتاحا عندما أشار له روبرت تايلور بالنزول إلى أرض الملعب، كان قناش صديقا قديما للكابتن سمير نصّار من أيام الدراسة الإعدادية، وطلب منه ذات يوم أن يلعب مع بعض الرفاق كرة السلة لأن لاعبا واحدا ينقصهم ليكملوا العدد، والباقي أصبح تاريخا يروى! مثّل الاثنان المنتخب سنينا طويلة وكانت رحلة قناش للرباط هي مشواره الأخير مع كتيبة النشامى فيما جلس صديقه القديم يتابع المباراة من عمّان على شاشة التلفاز.
تحوّل العراقيون لدفاع المنطقة فداهمهم قناش كموج البحر الثائر، سجّل الجناح المعتّق ثلاث ثلاثيات متتالية ثم سلة أخرى من رمية قافزة رائعة، اشتعلت المباراة وانقطع البث التلفزيوني في الأردن، بقي من الوقت دقيقة وثلاث ثوان عندما تقدّم الأردن للمرة الأولى.
يروي تايلور حكاية الثواني الأخيرة المليئة بالحب والدموع: “قاتل فريقنا في الدفاع كالأبطال وقفزوا أعلى من العراقيين وقاتلوا على كل كرة”.
لا يعرف جمال البحيري ما هو العلاج الذي أعطاه إياه الدكتور سارة لكنه يتذكر كيف قاتل كالأسد على آخر سلة في اللقاء. سجل البحيري ثم اقتنص خطأ شخصيا ووقف على خط الرمية الحرة وجليد مثلّج يسري في عروقه، سجل النشمي الفذ الرميتين وفاز الأردن على العراق في نهائي الدورة الرياضية العربية في الرباط 80-78.
أصبح نشامى الأردن أبطال العرب المتوجين بالذهب.. كانت ذهبية السلة هي الإنجاز الوحيد للبعثة الرياضية الأردنية العائدة من الرباط… لكنها كانت أغلى من كل شيء.
“أحب هذا الفريق… لقد صنعنا التاريخ معا، عندما خرجنا من الصالة أقترب مني معلّم أردني مقيم في المغرب ووضع العلم الأردني على كتفي، في تلك اللحظة تملكني شعور لا يوصف، شعرت أنني أردني، ولم يفارقني هذا الإحساس أبدا”.
يغالب تايلور دمعة حارة وتفيض نفسه بحلاوة الذكريات، أما ذلك الشعور الجميل الذي جلبه لنا ذلك الجيل الرائع.. فسيبقى في قلوبنا ونفوسنا إلى الأبد.