ذكريات خضراء*
كتب :ابو اليزيد غيث
برغم الأوضاع المعيشية الصعبة في مخيم الوحدات في الثمانينيات ، كما سائر المخيمات ، دائما ما كان هنالك مساحة للفرح والاستمتاع ،،، فكنا نستمع أحيانا لزغاريد تطلق في هذه الحارة او تلك احتفالا بزفاف أحد شباب المخيم أو لتخرج بنت او شاب من الجامعة وكانت تكثر الزغاريد وقت إعلان نتائج التوجيهي وبخاصة قرب منزل المصور المعروف ” يوسف العلان* ” لقدرته على معرفة النتائج قبل أهل المخيم بوقت قصير ،،، وبرغم ذلك لا حدث كان يتسبب بإدخال الفرح والسرور إلى بيوت المخيم وحاراته كافة في نفس اللحظة كفوز ” مركز شباب مخيم الوحدات ” في مباراة أو بطولة ،،، عندئذ كان المشهد يختلف تماما ، وخاصة إذا ما عاد الفريق حاملا كأس بطولة أو درع ، حيث يبتسم المخيم بكافة حواريه وأزقته وترى أهل المخيم كبارا وصغارا يخرجون الى الشوارع لاستقبال حافلة الفريق والالاف من الجماهير المرافقة له بالزغاريد وتتطاير حبات الحلوى ” ناشد ” هنا وهناك على وقع سيمفونية أبواق السيارات الرائعة ” تربت تت توت وحدات ” ، وينسى الجميع الامهم وهموهم من أجل تحية الأبطال واستقبال اللاعبين و الجماهير المرافقة ،،،
ذلك هو جمهور ، بل تلك هي جماهير ، نادي الوحدات من أهل المخيم والتي خلقت مطلع الثمانينيات مشهدا غاية في الروعة في مدرجات ستاد عمان الدولي وهو الذي لطالما عانى من قلة عدد الجماهير ،،، فلم يعد هنالك موطئ قدم في أي مباراة يلعبها الاخضر رسمية كانت أم ودية وسواء أكان توقيتها عصرا أم مساء أم في ساعات الصبح الباكر ،،، وحتى في بعض المباريات التي كانت تقام في الشتاء القارص كانت جماهيرنا تملأ الملعب ،،، عرفناها جماهيرَ منتمية تلحق الفريق أينما ذهب تاركة أعمالها وأشغالها من أجل الوحدات ، ومن عايش تلك الفترة يتذكر جيدا كيف كانت غالبية المحلات في السوق والمنطقة الصناعية تغلق أبوابها ويترافق صاحب العمل مع عماله الى الملعب لأداء الواجب، وأتذكر جيدا كيف كان بعض معلمي التربية البدنية في مدارس الوكالة يسارعون الى الاستئذان بهدف اللحاق بالمباراة في وقت كان بعض الطلاب يهربون أو يتغيبون عن المدرسة للوقوف خلف الفريق في المباريات التي كانت تقام عصرا ودون أن يعاقب المعلم الطلاب أو أن تعاقب الأسرة أبناءها ، فقد شكل الوحدات لدى أهل المخيم حالة عجيبة جعلت المعلم يسابق طلابه والأب يسابق ابناءه في الذهاب الى الملعب بل جعل الأم تخرج الى الشارع بحثا عمن يصطحب طفلها الى الملعب لبكائه المتكرر من أجل الذهاب خلف الوحدات ،،،
أتذكر كيف كانت تضج العاصمة الجميلة عمان بالسيارات والباصات و” البكبات ” التي تحمل جماهير نادي الوحدات إلى الملعب ،،، فهذا مشجع يحمل أبناءه وجيرانه في سيارته وتلك حارة تجمع شبابها ليذهبوا مجتمعين في ” بكب ” على أن يدفع كل منهم خمسة عشر قرشا بدل ذهاب وعودة ، وذاك طفل انتظر وقت الزحام ليدخل خلسة الى باص المؤسسة ( ذي اللونين الأحمر والأبيض والذي اعتاد أن يقف وسط المخيم ) وذلك لأن كل ما يملكه هو ” شلن أو بريزة ” ويريد أن يوفر أجرة الباص ” قرشين ونصف ” ، على أمل ان يشتري في ستاد عمان ساندويشة ، لا شيء بداخلها سوى حبة فلافل واحدة ، أو ” كرباج حلب ” يسد جوعه في رحلته الشاقة والتي كانت تستغرق أحيانا ست أو سبع ساعات منذ لحظة مغادرة البيت الى حين العودة اليه ،،،
أتذكر كيف أن تدفق جماهير الوحدات إلى ستاد عمان بعشرات الالاف أوائل الثمانينيات دفع اتحاد الكرة لاستحداث العديد من البطولات الجديدة مثل كأس الأردن وكأس الكؤوس ودرع الاتحاد للاستفادة من جماهيرية الوحدات في زيادة دخل الاتحاد ومساعدة بقية الأندية في الانفاق على نشاطاتها ،،، كما أذكر كيف أن الزخم الجماهيري الأخضر دفع الاعلاميين والنقاد للمطالبة بانشاء ملعب جديد يتسع ل ٥٠ ألف متفرج ،،، وفي ذات الوقت فإن جماهيرنا تلك كانت تملأ المدرجات بعشرات الالاف دون الحاجة لتواجد سوى عدد بسيط جدا من قوات الأمن حتى أنه يصعب ملاحظتهم والصور أدناه توضح ذلك ،،، وبالرغم من ذلك لم يحدث أن اعتدت جماهيرنا على أي من اطراف اللعبة او انها نزلت الى أرض الملعب الا في حال أرادت بعض الجماهير ايصال شخص مغمى عليه بسبب هدف سجل للوحدات أو ضده ، وحالات الاغماء هذه كانت مشهدا مألوفا في مباريات الوحدات في الثمانينيات بكل أمانة ،،،
وأتذكر كيف كان بعض الاباء يبرمجون أوقاتهم ويصطحبون أسرهم مبكرا الى المدينة الرياضية بهدف التنزه وحضور مباريات الوحدات ،،، فما أن ينتهون من طعام الغذاء حتى يسارعون الى شراء التذاكر ودخول الملعب مبكرا لضمان حضور المباراة جالسين على المدرجات الاسمنتية لا واقفين أو متسلقين لسور الملعب أو الأشجار المحيطة به ،،، وأتذكر كيف أن تلك الأسر الوحداتية بشغفها وحبها للمارد الأخضر دفعت اتحاد كرة القدم لتخصيص درجة كاملة للعائلات ، وظلت تلك الدرجة ( القابعة يسار المنصة ) تتزين بحضور العائلة الوحداتية بكامل أفرادها لسنوات طويلة في الثمانينيات قبل أن تتسبب الشتائم والسلوكيات المنفرة بهجرة العنصر النسائي للملاعب ،،،
أتذكر كيف أن جماهيرنا في الدرجة الثانية ( يمين المنصة ) كانت تنصت لحاج يتكئ على عصاه ويحمل ورقة فيها بعض الهتافات من تأليفه ونهتف خلفه للوحدات واللاعبين كلٍ باسمه ،،، كما لا أنسى هتافات وحركات كان الجميع يشارك في أدائها كهتاف ” هذا هو رد مركزنا هذا هو رد ” أو التصفيق باليدين على طريقة الكشافة ( تسع مرات تؤدى الثلاثة الأولى والثانية بشكل متواصل في حين تؤدى اخر ثلاثة بشكل متقطع) ،،، وكانت تلك الجماهير تعشق كثيرا أغنية الفنانة المصرية الراحلة ” مها صبري ” والتي كان تقول ” سنتر يالله وخذلك مطرح … أنا حديلك واوعك تسرح ،،، فيها جوول ، فيها جووول ، جووووول ” ، وهذه الأغنية دائما ما كان يضعها مسؤول الاذاعة الداخلي بين شوطي المباراة لتتسلى بها الجماهير بالتزامن مع تدريبات اللاعبين البدلاء أو مجموعة أطفال يسددون على المرمى ،،،
على الهامش ،،،
اعتذر بسبب طول البوست لكوني أحببت أن أجمع ما أمكن من ذكريات متعلقة بالجماهير قبل أن تهرم الذاكرة وهو ما اضطرني الى طرح الموضوع على يومين ،،،
ملاحظة :
يوسف العلان مصور معروف كان يقطن في أطراف المخيم وكان قبلتنا جميعا قرب اعلان النتائج لأنه كان يعمل في صحيفة الرأي ، التي كانت بدورها تنشر أسماء الناجحين في ملاحق خاصة ،،، وكنا نذهب اليه على أمل الحصول على الملحق أو معرفة النتائج التي نريد من علان نفسه قبل نشرها في الصحف ،،،
الجزء الثاني ،،،
أتذكر كيف انتشرت شعبية الأخضر بشكل جنوني في مختلف مخيمات ومناطق عمان واربد وجرش والزرقاء ومادبا حتى باتت حركة السير حول المدن الرياضية في غاية الصعوبة قبل وبعد المباراة بساعات ،،، وحتى طريق عمان اربد كان يشهد حركة سير غير طبيعية عندما يلعب الأخضر في اربد والطريف أننا كنا نجد جماهير الوحدات في اربد والمخيمات القريبة قد سبقونا في احتلال مدرجات الملعب ،،، وما أجمل مشهد العودة عندما يخرج الشباب والصغار من شبابيك السيارة ينفخون بأبواقهم الفضية سيمفونية ” تربت تت توت ، وحدات ” لتتداخل مع صوت أبواق السيارات وليتسيد المشهد الصاخب الرحلة الجميلة بداية من ستاد عمان مرورا بنفق العبدلي “المخابرات” وراس العين وانتهاء بطلوع المصدار حتى الوصول الى مخيم العز والفخر ،،، وفي المقابل كان الالاف من جماهيرنا يعودون الى بيوتهم مشيا على الأقدام لندرة أو حتى لاختفاء وسائل النقل العام من الشوارع عند نهاية مباراة الوحدات ، فتجد شوارع الحسين والعبدلي وقد اكتظت بالجماهير التي تتبادل وجهات النظر حول ما حدث في المباراة ، وللأمانة تلك الجماهير كانت تعاني كثيرا في رحلة العودة لأن قوات الأمن كانت تحاول تنظيم المرور فتضطر الى دفع الجماهير للمشي على الأرصفة الضيقة وهنا كان يحدث أحيانا بعض المشاحنات والخروج عن النص مما يضطر أصحاب المحلات التجارية الى اغلاق محلاتهم خشية تعرضها لأية مضايقات ،،، وبالطبع لا نضع اللوم على طرف دون الاخر ، فقوات الأمن تريد القيام بواجبها وفي ذات الوقت الحشود الجماهيرية دائما ما كانت أكبر من سعة الأرصفة مما يعني استحالة أن تمشي الأمور بيسر انذاك ،،،
ولا أزال اتذكر كيف أن جماهيرنا لم تكن تجد موطئ قدم للصلاة فيؤدونها في الساحة الضيقة أعلى المدرجات بل وعلى المدرجات نفسها ولم نكن نسمع صوت الإمام حينها الا ما ندر ،،، وفي المقابل فإن الساحة الضيقة أسفل المدرجات كان يجلس فيها بائع الشاي الذي كان يغلي الشاي في المدرجات أمام الجماهير وكذلك بائع ” كرابيج الحلب ” الذي كان يبيع المشجع من المقلى مباشرة ، فلم يكن يخشى المنظمون على تواجد الغاز في المدرجات، وهذا دليل على أن جماهيرنا كانت غاية في الانتظام والالتزام ،،، وحتى عندما كان يحدث مشكلة بين مشجعين وحداتيين كانت الجماهير من حولهم تنتفض للإصلاح فيما بينهم ونادرا ما اضطر رجال الأمن للصعود الى المدرجات بين الجماهير لأخذ مشجع لأي سبب كان ، بل كان هذا الأمر غاية في الصعوبة لأن الجماهير محتشدة في المدرج ولا فواصل بينها والدرج مختفي تماما مما كان يضطر رجال الأمن الى استدعاء الشخص المخالف بالاشارة لعله ينزل قبل أن يصعدوا لاصطحابه معهم ،،،
أتذكر أيضا كيف أن المشجع الوحداتي دائما ما كان يحتفظ في جيبه بقصاصة من ورق إحدى الصحف تظهر جدول مباريات الفريق وبحيث يطالعها مرارا حتى يصل به الأمر الى حفظ الجدول غيبا ،،، وفي المقابل فإن من لم يستطع الذهاب الى الملعب فإنه كان يجلس في بيته على أحر من الجمر في انتظار نشرة الأخبار على القناة الأولى التي كانت تبدأ في الساعة الثامنة وتؤخر إذاعة الخبر الرياضي الى اخر النشرة واحيانا كان يتم الاعلان عن النتيجة بشكل خاطئ غير مقصود طبعا وأحيانا أخرى كانوا يتجاهلهون الخبر الرياضي المحلي وكثيرا ما فعلوا ذلك مما يتسبب بسخط وقلق الالاف من المشجعين ،،، ومن الجماهير من كان ينتظر النتيجة في النشرة الرياضية التي كانت تبث عبر الاذاعة بصوت كنعان عزت ،،، واخرون كانوا محظوظين بالوصول الى تلفون أرضي ، فكانوا ينهالون بالاتصالات على النادي أو صحيفة الدستور تحديدا على أمل ان يعرفوا نتيجة المباراة بشكل صحيح على عكس بعض الصحف التي كانوا يتلاعبون بأعصاب الجماهير سواء بالادعاء بعدم علمهم بالنتيجة أو اعطاء النتيجة بشكل خاطئ ،،، وفي المقابل فإن أسعد الجماهير خارج الملعب هم من يقطنون في المناطق المجاورة للمدينة ، فأولئك كانوا يخمنون النتيجة من خلال هدير جماهير الوحدات وتصفيراتهم بل كانوا يميزون الفرصة من الهدف والفوز من الخسارة بكل سهولة ،،،
أتذكر أيضا كيف كانت جماهيرنا تندفع بالالاف الى ستاد عمان للوقوف خلف ناد ما على أمل عرقلة منافس لنا على لقب الدوري كما حدث في موسم ١٩٨٣ عندما حضر لقاء الفيصلي والأهلي قرابة ٢٠ الف متفرج جلهم من جماهيرنا كون الفريقان العريقان لم يكونا ليجمعا أكثر من ثلاثة الاف متفرج في احسن الأحوال في تلك الفترة ،،، وقد شجعنا الأهلي بحرارة على أمل أن يعرقل الفيصلي بعدما تعثر الوحدات في وقت سابق بالتعادل أمام الرمثا إلا أن الرياح جرت بعكس ما تمنينا حيث فاز الفيصلي برباعية مقابل هدف وظفر باللقب بفارق نقطة واحدة عن الوحدات في واحدة من أقوى نسخ بطولة الدوري عبر تاريخه ،،،
تلك هي جماهيرنا المفخرة في الثمانينيات وما تميزت به من ايجابيات وذكريات رائعة أهمها أنها كانت على قلب رجل واحد ولم تكن تهتف سوى للاعبين او المدربين وأما الإداريين ورغم جهودهم التطوعية الرائعة فإنهم لم ينتظروا يوما من يهتف لهم بل الغالبية الساحقة من الجماهير لم تكن تعرف أسماء الإداريين أصلا ربما باستثناء رئيس النادي ،،، وفي المقابل فلن ندعي أننا كنا أنبياء بل كان هنالك أخطاء وتجاوزات فردية او حتى جماعية ولكنها قياسا بضخامة عدد الجماهير كانت تعتبر مقبولة وبخاصة أنها تجاوزات لفظية فقط دونما تخريب أو تحطيم لأي شيء ،،، مثلما أننا لم نكن نجامل حتى لاعبينا عندما يقصر الفريق ، فحدث أن هتف بعضنا للفريق المنافس أكثر من مرة نكاية بلاعبينا كم تم رميهم ذات مرة بالخضروات الفاسدة ومع ذلك كانوا يقدرون حرقتنا ودائما ما عكست ملامحهم حجم خيبة الأمل التي يشعرون بها جراء عدم تلبية طموحات الجماهير بل كثيرا ما تجنبوا الظهور بعد الخسارة أو التعادل احتراما لمشاعر تلك الجماهير ،،،
في النهاية نتوجه بالشكر والتقدير لكل مشجع وحداتي من ذاك الزمن الجميل وأتشرف أن أكون احدهم ،،، وفي ذات الوقت فإنني أقدر وأعتز وأتشرف كثيرا بجماهير التسعينيات والألفية الجديدة الذين أكملوا المسيرة بل أحدثوا نقلة نوعية ولا أروع سواء في طريقة التشجيع أو الادوات والأساليب المستخدمة من قبلهم فضلا عن ترحالاتهم المتعددة خلف الفريق في الدول العربية ،،، وما نتمناه أن تواصل جماهيرنا ألقها مع ضرورة تلافي بعض السلبيات التي أخذت تطفو على السطح في السنوات الأخيرة وأهمها التخندق مع كتلة إدارية ضد كتلة أخرى ،،، فالجماهير هي حجر الأساس في النادي ولولاها لما وصل الوحدات إلى ما هو عليه الان وبالتالي فلتشعر الجماهير بقيمتها ولتعمل جاهدة على اخراج المارد من القمقم الذي حشر فيه عنوة بسبب قصر نظر الإدارات المتعاقبة ،،، فطموحاتنا وأحلامنا لم ولن تقف عند لعبة كرة القدم أو الفوز بالبطولات المحلية فيها بل نريده ناديا عظيما بمرافقه وتنوع نشاطاته وببطولاته الخارحية قبل الداخلية والأهم من ذلك نريده عظيما باكتفائه المالي وبخاصة في ظل حالة الافلاس التي تعيشها الأندية الأردنية مؤخرة ،،،